مفهوم السياحة الاحيائية
د. سعد الجميلي 2008
إن فكرة السياحة الإحيائية TourismRevival تقع ضمن سياق النظرة الشاملة التي تستوعب إحياء القيم المادية وغير المادية للمكان وديمومتها بشكل قصدي.والديمومة تعني استمرار يستحيل تجزئته ولاتتقبل أي انقطاع في أي ناحية من نواحيها،وتعني بان الماضي يلتصق بالحاضر في كل لحظة من اللحظات ويشكل معه نسيجا لايتمزق.ويرى "برغسون"* ان جميع الماضي يتجمع تجمعا مستمرا ويحفظ بصورة غير محددة، انه هناك حاضر من خلفنا يكفينا ان نلتفت لنقبض عليه بأكمله ، والذاكرة لوحدها لا تقدم الا الديمومة المتراخية عن الماضي، لكن الديمومة مرتبطة بالمستقبل أيضا، وإلا لما كانت حركة وتغيرا مستمرا، ويقول "برغسون"* ايضا ان كل شعور هو ذاكرة، أي حفظ وتجميع لمفردات الماضي الحاضر وان كل شعور هو استباق للمستقبل. والديمومة هي تقدم الماضي المستمر،وتجميع الماضي فوق الماضي وهي عملية تتابع بدون مهادنة.ان الماضي باجمعه يتبعنا الذي هو حركة وان جوهر الحركة هو اتصال ولن يتحقق أي اتصال باللجوء الى أشياء منفصلة. (برغسون،1955,P5 ) وبذلك فالديمومة او الاستدامة تعني الحركة والاستمرارية والتغيير الذي يهدف الى التطور لكنه محكوم بمفردات الماضي والحاضر التي تمثل قيمه والدافع نحو التغيير، وفي هذا السياق تقع على السياحة كمتغير على المكان مسؤولية كبيرة لما تتضمنه من مفاهيم تتطلب مراجعة تاريخية واعية لكل الماضي لتعيد صناعة هذه السياحة،وتعيد هيبة الحضارة العريقة التي أصبحت في حسابات الذاكرة المتراخية والتي لاتحقق أي اتصال او ارتباط لعدم وضوح آلية الارتباط وماهية المفاصل التي يمكن الارتباط والانطلاق منها لعدم وضوح المنظومات المحركة لها، ان عملية ربط العمارة بصناعة السياحة يجب ان يكون دوره اكبر من مجرد الحاجة الى العمارة لتحقيق المتطلبات الانية للمشروع السياحي المرتبط برغبة الجهة المسئولة او المستثمر، بل يجب ان يخضع الى تحقيق كل المتطلبات الحضارية للمجتمع والتي تحققها السياحة الإحيائية المرتبطة بالتخطيط الشامل للمنطقة، من هنا تكون مسؤولية هذا النوع من السياحة، مسؤولية أخلاقية اتجاه المجتمع وإعادة الروح الى الحضارة والتاريخ والطبيعة واعمار الارض واستدامة روح المكان.ومن خلال ماتم تناوله عن تأثيرات السياحة المختلفة والتي شملت جميع القطاعات ،تبرز الحاجة الى نهج أسلوب غير تقليدي في التعامل مع هذا النشاط ،خاصة في البلدان النامية التي تمتلك خزينا هائلا من المحفزات السياحية الا انها تعاني من أزمات جدية في كافة المستويات التخطيطية والعمرانية واشكال الانظمة الاقتصادية وأساليب حمايتها للموروث،وضرورة تبني آليات جديدة تسهم في صناعة هذا النشاط وتوفير مستلزماته، اما التعريف الإجرائي للسياحة الإحيائية فيتمثل بأنه" ذلك النشاط الذي يهدف الى إحياء وتأهيل وإصلاح القيم المادية وغير المادية للمكان وتفعيل واستدامة وإعادة بناء روح وذاكرة المكان، بما يضمن خلق الاستمرارية الحضارية والروحية والفكرية والتاريخية والطبيعية والاجتماعية للمكان من خلال توظيف فكر العمارة في هذا النشاط، وبما يؤدي الى تنشيط الصورة الذهنية للمتلقي ولفت الانتباه الى المعطيات المادية والمعنوية(المرئية واللامرئية) للمكان" وبذلك يجب ان تضمن السياحة الإحيائية إعادة تشكيل وإصلاح روح المكان والارتقاء بالمكان حسيا وروحيا وتدفع باتجاه ايجاد السبل والوسائل لتوجيه المصمم على استكشاف قيم المكان وبنية الناس المقدسة (أماكنهم المقدسة)sacred structure،وتدفع السياسات المحلية والحكومية على تبنيها،كما تعد السياحة الإحيائية مستوى من مستويات التدخل الغير مقيد بمنهجيات محددة لإصلاح وإعادة تشكيل المكان المرتبط بمعطيات المكان وكيفية توظيفها، وبقدرات المصمم على استكشافها وفهمها،وعلى السياسات الحكومية والمحلية والمجتمع المحلي كقوة تضغط باتجاه صنع القرار.
وفي ضوء ذلك تشكل العمارة جزءا مهما في ديمومة ونجاح هذا النشاط والتي تشكل "السياحة والمكان" مرتكزيه الاساسيين، ومفهوم "السياحة الاحيائية" لايمثل تصنيفا جديدا لانواع السياحة المعروفة،الثقافية والبيئية والدينية... بل هي نظرة جديدة او اسلوب جديد بالتفكير والتعامل مع المكان يتطلب تبني مفاهيم واساليب جديدة يتم اكتشافها من خلال فهم معطيات المكان،وليتم تمييزها عن الاساليب التقليدية للسياحة التي قد لاتلبي حاجات السائحين ويكون دورها الحضاري والاقتصادي ضعيفا ضمن مرحلة صناعة السياحة التنافسية ومفاهيم العولمة.وليس بالضرورة ان يكون الاتصال بنفس صورة الماضي بل بمحاكاة الماضي والاستلهام او الاستعارة منه"، وتعد المحاكاة عملية ابداعية تواصلية في الفنون والعمارة والموسيقى والادب.
كما يمكن خلق حالة التدرج بالانتقال من البيئات القديمة والتاريخية الى المناطق المحيطة بها من خلال تلك الاساليب بما يضمن خلق حالة التتابع البصري للصور.
ومن هنا تظهر اهمية البحث عن معطيات ومحفزات المكان واستقصائها في البيئة التقليدية والتاريخية، وتفعيلها في اظهار وتاهيل تلك البيئات والاماكن المحيطة بها لخلق حالة التدرج والانتقال التدريجي لتلك القيم والمفاهيم اليها،وعدم عزلها عن الذاكرة وجعلها تشكل جزءا من ذاكرة المدينة وجزءا من استمرارية مشهد المكان، وماعدا ذلك فانها ستكون جزءا من الذاكرة المتراخية للمكان والتي تذوب شيئا فشيئا وتشظيها من خلال تاثيرات العولمة على الذاكرة والادراك والقيم بما يؤدي الى الانقطاع وعدم الاستمرارية.